المنسى – الطيب صالح
في مثل هذا الوقت من العام
الماضي توفي رجل لم يكن مهماً بموازين الدنيا، ولكنه كان مهما في عرف ناس قليلين،
مثلي، قبلوه على عواهنه، وأحبوه علىمن
علاته. رجل قطع رحلة الحياة القصيرة وثبا وشغل
مساحة أكبر مما كان متاحاً له، وأحدث في حدود العالم الذي تحرك فيه، ضوضاء عظيمة،
حمل عدة أسماء، أحمد منسي يوسف، ومنسي يوسف بسطاوروس، ومايكل جوزيف، ومثل على مسرح
الحياة عدة أدوار، حمالاً وممرضاً ومدرساً وممثلاً ومترجماً وكاتباً وأستاذاً
جامعياً ورجل أعمال ومهرجا. ولد على ملة ومات على ملة. ترك أبناء مسيحيين وأرملة
وأبناء مسلمين. حين عرفته أول مرة، كان فقيراً معدماً، ولما مات ترك مزرعة من مائتي
فدان من أجود الأراضي في جنوب انجلترا، وقصرا ذا أجنحة، وحمام سباحة، وإسطبلات
خيل، وسيارة (رولز رويس) و(كاديلاك) و(مرسيدس) و(جاكوار) وماركات أخرى. وخلف أيضاً
مزرعة من مائة فدان في ولاية (فرجينيا) بالولايات المتحدة، ومطعماً وشركة سياحة.
لما بلغني نبأ وفاته، اتصلت بداره في (ثاتشبري) في
ضواحي ساوثهامبتون بإنجلترا. أجابني صوت أمريكي لشاب، هو ابنه الأكبر (سايمون)
علمت منه أن الموت أخذ أباه على حين غرّة وهو في أوج الصحة والعافية, فأصيب بسرطان
الكبد الذي قضى عليه خلال أسابيع, وكنت وقتها في السودان. ثم خطر لي أن أسأله كيف
دفن أبوه فأخبرني أنهم لم يدفنوه بعد, وكان قد مضى على موته عشرة أيام, وأنهم
ينتظرون أن تتم الإجراءات لحرق جثمانه
قلت له: ولكن أباك رجل مسلم, وحرق الجثمان محرم عند
المسلمين
فأجابني نحن لا تعلم عن إسلامه شيئاً. الذي نعلمه
أن والدنا كان مسيحياً, وكان يقول لنا حين أموت أحرقوا جثماني
قلت له اسمع لا يوجد أدنى شك أن أباك كان مسلما،
وأنا شاهد على ذلك. إنه أمر خطير أن تحرقوا جثمان رجل مسلم. وتذكر أن أباك خلف
أرملة مسلمة ولكم منها أخ مسلم. إذا قلتم: إنه لم يكن مسلماً فمعنى هذا أن زواجه
هذا كان باطلاً.
اتصلت بزوجته في الرياض فاستغاثت بوزارة الخارجية
السعودية التي سارعت بالتدخل, فحسم الأمر, ودفن منسي كما كنا نسميه كمسلم وأقيمت
عليه شعائر المسلمين, وذلك بعد نحو شهر من موته. ومع ذلك نشرت صحيفة الأهرام أن
أهله في مصر أقاموا القداس على روحه في الكنيسة القبطية.
ورغم حزني عليه فقد ضحت. قلت هكذا منسي لغز في
حياته ولغز في مماته. لقد أربك الناس حوله وهو حي. وها هو يربكهم وهو ميت. كانت
الحياة بالنسبة له, نكتة كبيرة وضحكة متصلة لا تنقطع. كانت الحياة سلسلة من (شغل
الحلبسة) كما كان يقول.
>ولد ونشأ قبطيا في بلدة ملاوي في عمق صعيد مصر. وكان يقول لنا
إنه كان يقضي معظم أوقاته مع أطفال المسلمين من سنه, فنشأ أقرب إلى المسلمين.
توفيت والدته وهو بعد صبي, وكان أكبر إخوته, وتزوج أبوه وأنجب بعدها. وهذه حقيقة
مهمة في حياته. كانوا فقراء مستورين ولم تكن الحياة سهلة. وصل الجامعة بعد جهد, فدرس
اللغة الإنجليزية في جامعة الإسكندرية فأتقنها, لفظاً ومعنى, بشكل لافت للنظر,
وكان أضرابه قليلين في إتقانه للغة الإنجليزية بين من عرفت من العرب. كان صعباً أن
يقتنع الناس أن منسي في عبثه وهذره يمكن أن يتقن أي شئ. وقد قضيت كل سنوات معرفتي
له, أحاول أن أقنع الناس, أنه إنسان عنده مواهب, وأنه يتقن أشياء كثيرة. قاده حبه
للغة الانجليزية بطبيعة الحال, إلى إنجلترا فوصلها العام 52 بعد سلسلة من
المغامرات والألاعيب والـ(أونطة) وانخرط في الدراسة في جامعة ليفربول. وكان فقيراً
لا يملك قوت يومه, فكان يدرس ويعمل, فعمل حمالاً وغسالاً للصحون في المطاعم,
وممرضاً. ثم انتقل إلى لندن. وكان في كل تحركاته كما أخبرنا فيما بعد, يستعين
بالجمعيات الخيريّة والهيئات الكنسية ويلعب على كل الحبال
منسي ومناظرته لريتشارد كوردسمان
في طريقنا إلى مقر اتحاد طلبة جامعة لندن, سألني
منسي عن قضية فلسطين. كانت جرأة كبيرة من اتحاد الطلبة أن يختار ذلك الموضوع , في
تلك الأيام العصيبة أوائل الستينات…
ولا أدري من الذي اختار منسي ليكون المدافع الرئيسي
عن قضية فلسطين تلك الليلة, في مواجهة خصم قوي شديد المراس. ولكن لأنه كان يحب
الجدل, ويحب الظهور والضوء فلا بد أنه بذل جهداً ليحصل على الدور. كان المتحدث
الرئيسي المعارض له, هو مستر ريتشارد كوردسمان.
" ريتشارد كوردسمان ؟ طز. وإيه يعني ؟"
لكن ريتشارد كوردسمان لم يكن رجلاً سهلاً , في
الواقع, ولو كان المعني بالأمر شخصاً غير منسي لحسب لمواجهته ألف حساب. كان من مفكري
اليسار المعدودين, ومن المنظرين الكبار في حزب العمال. كان أستاذاً في جامعة
أوكسفورد قبل أن يصبح نائباً في البرلمان. وقد صار فيما بعد وزيراً ومستشاراً
أثيراً عند هارولد ولسن رئيس الوزراء. ولمّا ترك الوزارة أصبح رئيساً لتحرير مجلة
الـ" نيو ستيتسمان" الواسعة النفوذ . وكان قد اشترك من قبل في لجنة
كونتها الحكومة البريطانية لدراسة أوضاع العرب واليهود في فلسطين ورفع تقرير عن
ذلك. وكان منحازاً تماماً لوجهة النظر الصهيونية.
قال لي منسي ونحن في سيارته تلك في طريقنا إلى مقر
لاتحاد, وقد بقي أقل من ساعة على بدء المناظرة:
" اسمع قول لي بسرعة إيه حكاية فلسطين دي ".
" الله يخيبك. تقصد سوف تواجه ريتشار كوردسمان وأنت لم تستعد؟ ألا
تعرف من هو ريتشارد كوردسمان " ؟
" بلاش غلبة. بس انت قول لي بسرعة إية حكاية وعد بلفور ومش عارف
إيه وشغل الحلبسة دا ؟
"
" يا ابني دا مش لعب. هذه مناظرة مهمة جداً… فرصة نادرة لن تتكرر.
الله يخرب بيتك. انت مين اختارك لتكون ناطقاً باسم العرب ؟"
" ما لكش دعوة. بس اديني شوية معلومات وما تخفش عليّ. قال ريتشارد
كوردسمان. طز! وإيه يعني ؟"
انتابني قلق حقيقي. امتلأت القاعة بالخلق, واللذين
لم يجدوا أماكن وقفوا في الطرقات والرّدهات. سفراء عرب وأجانب, وأعضاء في البرلمان
وصحافيون ومصورون. وراديو وتلفزيون. كان واضحاً أن كلاً من الجانبين قد بذل جهداً
كبيراً لحشد الناس. لا غرابة فإن المناظرات التي تعقدها اتحادات الطلبة في
الجامعات, خاصة في أوكسفورد ولندن, لها تأثير ووزن معنوي كبير, ودائماً تحضى
باهتمام وسائل الإعلام.
لحسن الحظ كان مع منسي فريق قوي, كان أحدهم, على ما
أذكر "أرسكن شلدرز" الكاتب الصحفي الذي دافع ببسالة عن العرب وقضية
فلسطين بالذات, ثم لما ازداد عليه العنت والضغط, ألقى السلاح واختفى من الساحة
تماماً.
حين خطا منسي إلى المنصة بقامته القصيرة, وجسمه
الذي كانت نتوءاته قد بدت تتضح من وراء ومن أمام هبت في وجهه عاصفة قوية من
التشجيع والهتاف من الجانب العربي, زادته جرأة على جرأته. تكلم بجنان ثابت ولغة
إنجليزية فصيحة. لكنه لم يقل شيئاً يجذب الاهتمام وقد حاول أن يغطي جهله بقوله,
أنه سوف يترك التفاصيل للفريق المساند له.
كل واحد من هؤلاء كان على بينة من أمره فتحدثوا
كلهم حديثاً مفيدً مليئاً بالحقائق الدامغة.
ثم أعطى الرئيس الكلمة لريتشارد كوردسمان, فخطا نحو
المنصة بقامته المديدة, وسط زوبعة من التأييد ضمت كثيرين لم يكونوا مع العرب أو
اليهود, ولكنهم كانوا يعرفون من هو ريتشارد كوردسمان.
تحدث بصوت أجش تميز به, وأسلوب جمع فيه بين وقار
أستاذ سابق في جامعة أوكسفورد, ودهاء سياسي متمرس تعلم الصنعة في مؤتمرات حزب
العمال,…حيث واجه خصوماً ضخاماً من وزن ونستون تشرشل, وأنتوني إيدن. ماذا يصنع
حامي حمى العروبة, فارسنا المسكين منسي في مواجهة هذا العلج الجبار؟ ولما فرغ
ريتشارد كوردسمان تأكد لي أن قضية فلسطين قد خذلت تلك الليلة في تلك الساحة.
بعد ذلك حدث أمر عجيب لا أذكر بوضوح كيف حدث,
ولكنني أذكر علج الصهيونية الجبار, وقد تقلص وصغر, يفتح فمه ويغلقه كأنه فقد
القدرة على الكلام, وقد احمر وجهه وسال العرق على جبينه, وفارسنا منسي قد تحول إلى
سبع كاسر, يجري غادياً رائحاً من آخر القاعة إلى المنصة يشير بيديه, ويشب في حلق
الرجل ويكاد يضع إصبعه في عينه ويلح عليه في السؤال:
" قل لي هل أنت بريطاني أم إسرائيلي ؟"
يزداد وجه ريتشارد كوردسمان احمراراً, وصاحبنا منسي
يرمح كالغزال إلى آخر القاعة ثم يمرق كالسهم إلى المنصة, يمد كرشه إلى أمام
ومؤخرته إلى وراء ويدير عينيه اللتين زادتا اتساعاً في القاعة, وقد حلت عليه طاقة
لا أدري من أين جاء بها.
" نحن نعلم أنك يهودي… لا اعتراض لنا على ذلك. من حق كل
إنسنفهم.يكون كما يشاء… نحن لسنا ضد اليهود… لكن نريد أن نفهم …ولاؤك لمن ؟ مع
بريطانيا أم مع إسرائيل؟"
لم يكن ريتشارد كوردسمان يهودياً حسب علمي ولكنه
كان من الواضح أن منسي أراد أن يزعزع الثقة في مصداقيته ويمزق ثوب الوقار والاحترام
الذي يكسوه. وقد نجح في ذلك تماماً. حوّل المناظرة إلى مهزلة وحوّل خصمه إلى شيء
يثير الضحك.
ولما عدت الأصوات, انتصر, ويا للعجب, الاقتراح دافع
عنه فارسنا "التعبان": وهو لا يعرف عن قضية فلسطين أكثر مما يعرف راعي
الإبل في بادية كردفان. وكان ذلك النصر دليلاً آخر أضافه منسي إلى ذخيرته, أن
الصدق والمنطق واتباع الأصول, لا يجدي, إنما الذي يجدي في الحياة وفي قضية فلسطين
وفي كل شئ. هو " الأونطة" و " شغل الحلبسة"
لفتت تلك الليلة الأنظار إليه, ومنها نظر الرئيس
عبدالناصر الذي أرسلت إليه السفارة المصرية - حسب رواية منسي- تقريراً مدعماً
بالصور كيف أن شاباً مصرياً " مسح الأرض " بأحد جهابذة السياسة في
بريطانيا. ولعل ذلك كان صحيحاً فقد تلقى منسي دعوة لحظور مؤتمر للمغتربين المصريين
وبذلك بدأت مرحلة جديدة في حياته. ولكنه قبل ذلك قام بعمل ربما يكون أجرأ عمل أقدم
عليه وكاد بسببه أن يطرد من بريطانيا
منسي يقتحم قصر باكنجهام
…حدث ذلك أواخر الخمسينات أو أوائل الستينات, لا أذكر على وجه
التحديد. لكنه كان حدثاً كبيراً. استضاف مجلس العموم البريطاني في لندن المؤتمر
الدوري لبرلمانات العالم. جاءت الوفود من كل الأنحاء وصادف أن منسي رحمه الله كان
على صلة حميمة برئيس الوفد المصري, منذ هو طالب في جامعة الإسكندرية. لذلك كان
سهلاً عليه أن يلتئم بالوفد المصري. كان يرافقهم في مجيئهم وذهابهم, يساعدهم على
شراء لوازمهم من الأسواق, ويرتب لهم مقابلاتهم, ويصطحب من يرغب منهم إلى عيادات
الأطباء, ..وقد وظف لذلك,..طاقته الهائلة ومعرفته الواسعة بمدينة لندن. أصبح شخصاً
لا غنى عنه بالنسبة لهم. وقليلاً قليلاً أصبح كأنه واحد منهم..وقد روى لي منسي أنه
تحايل على سكرتارية المؤتمر, فوضعوا اسمه في قائمة أعضاء الوفود, وصاروا يرسلون له
كل أوراق المؤتمر بما في ذلك بطاقات الدعوات التي كانت تقام تكريماً لهم. أصبح
منسي يحضر اجتماعات المؤتمر في النهار, ويحضر حفلات الاستقبال في المساء. ولم يجد
أعضاء الوفد المصري غرابة في ذلك, فقد كانوا يضنونه مندوباً عن هيئة الإذاعة
البريطانية.
…مر كل شئ بسلام, إلى أن حلّ ذلك المساء, حين أقامت الملكة حفل
الختام للوفود في قصر باكنجهام. لبس منسي بدلة السهرة التي لابد أنه استأجرها أو
استعارها. ثم مضى إلى موعده المضروب في ذلك القصر. مكان أكثر سحراً وألقاً وهيبة
من كل الأمكنة التي دخلها من قبل. إنني استطيع أن أتخيل كيف دخل منسي قصر باكنجهام
ذلك المعقل الإمبريالي, المحاط بالبروتكولات والرموز والطقوس .
>…كان على الباب رجل في بذلة حمراء كأنه جنرال في الجيش, يعلن
بصوت جهير أسماء المدعوين, وهم يدخلون قاعة الاستقبال, واحداً بعد الآخر. لم
يعجبني ذلك, وقلت لنفسي لم الجلبة والضوضاء, فدخلت دون أن أعطيه اسمي. وما هو إلا
قليل, حتى سمعت الحاجب ينادي بصوته الجهير:
"الدكتور مايكل بسطاوروس, رئيس القسم العربي بهيئة الاذاعة
البريطانية"
كان رئيس القسم العربي الحقيقي موجوداً في الحفل,
فالتفت متعجباً.
نعم, إنني أستطيع أن أتخيل, كيف اقتحم منسي ذلك
الحصن الحصين الذي لا يدخله كل من هب ودب…تجاوز السور الحديدي الخارجي الذي يتشبث
به السياح, ينظرون من بعيد إلى مراسم تغيير الحرس, يراودهم الأمل أن يروا وجهاً
يطل عليهم من نافذة أو ردهة. دخل إلى الفناء الداخلي, ولعلّه صعد درجاً, ثم فتحت
له الأبواب, وسار به الحرس الملكي في دهاليز واسعة طويلة. كل خطوة محسوبة منذ عهد
سحيق غابر. أخيراً وصل إلى..نهاية المطاف.
…فتح الباب الأخير, ونادى حاجب الملكة الذي لا بد أنه لم يكن
كسائر الحجاب:
" الدكتور منسي يوسف بسطاوروس, رئيس الوفد المصري "
…مثل منسي بثوبه المستعار وصفته المنتحلة, أمام الرمز الأكبر
للأمبراطورية البريطانية..ملكة إنجلترا واسكتلندا وإيرلنده وويلز وجزر الهبرديز
وجزيرة مان وما وراء البحار, وريثة تاج الملوك جيمس وجورج وإدوارد, سليلة آل
وندسور وهانوفر, راعية الكنيسة, رئيسة الكومنولث!
وماذا فعل منسي هل حيّا وانصرف؟ هل اكتفى بذلك
القدر؟ أبداً. كانت تلك لحظة لا بد أنه ظل يستعد لها على غير علم منه منذ ولد,
وكأنما الأقدار هيأته لذلك اللقاء " التاريخي ". ولعله أيقن أنه هو يرمز
لشئ ما, وأنه لم يأت متسولاً, ولكنه يقف ذلك الموقف بمقتضى منطق, وإن بدا عجيباً
فإنه عادل على وجه من الوجوه
كان يعلم أن رئيس الوفد الحقيقي كان مريضا ًتلك
الليلة, وأنه ما من أحد سوف ينوب عنه. ولعل ذلك كان حتماً, فقد كان المنطق العجيب
الذي أعطى منسي شرعيته ومبررات سلوكه عن علم أو عن غير علم , يقتضي أن يلعب ذلك
الدور, أن يكون هو الرئيس. ولم لا ؟
ألم ينتزع نابليون وهو " حتة تلياني من
كورسيكا " التاج ويضعه بيده على رأسه ويفرض نفسه " أمبراطوراً على
فرنساً " ؟
بمقتضى هذا المنطق العجيب, وقف منسي في الصف الذي
يؤدي إلى الملكة, بين رؤساء الوفود…الرمز الإمبريالي, الذي يعزف من أجله السلام
الملكي, وتتحرك باسمه الجيوش…
وكان وراءه في الصف محمد أحمد محجوب رئيس وفد
السودان…بعد ذلك بزمن حكينا القصة لمحمد أحمد محجوب رحمه الله. غضب أول الأمر,
بوصفه زعيماً, ثم نظر إليها بوصفه شاعراً فضحك.
…كان الرؤساء يسلمون على الملكة فتقول لكل منهم بضع كلمات على
سبيل المجاملة, ثم ينصرفون, ولا يأخذ اللقاء أكثر من دقيقة أو دقيقتين.
لكن منسي كان مختلفاً. لم يفوضه أحد. جاء بمحض
إرادته, لا كمتسول, ولكن بمنطق عادل في نظره…
..يروي منسي رحمة الله, أن الملكة بعد أن حيّته حسب ما تقتضي
المراسم والأصول, فجأة قال لها, دون تفكير, ودون أن يناديها بلقب صاحبة الجلالة
كما تقتضي الأصول:
" اسمعي. لا بد أنك تجدين هذه الناسبات مملة جداً. كيف تحتملين
القيام بهذا الدور الممل يوماً بعد يوم ؟"
يقول منسي أن الملكة ضحكت, ولكن أغلب الظن أنها
ابتسمت ابتسامة خفيفة, لتخفي دهشتها من تلك الجرأة, فهي مدربة لمثل هذه المواقف.
بعد ذلك دخل معها في حديث طويل عن مهامها كملكة,
وعن حياتها العائلية. وبلغت به الجرأة أنه سألها عن تربية الأمير تشارلز ولي
العهد, وعن تعليمه. ليس ذلك فحسب ولكنه أخذ يعطيها نصائح عن أفضل السبل لتربيته
وتعليمه استغرقت المقابلة وقتاً طويلاً بحساب ذلك المكان. وقف الصف, وبدأ رؤساء الوفود
يتعجبون من هذا الذي أعطته الملكة كل هذا الوقت. وكان محمد أحمد محجوب وراء منسي
ينتظر دوره, بقامته المديدة, وخبرته الطويلة, وبذلته الأنيقة التي لم يستعرها,
ولكن اشتراها من حر ماله.
تحرك دوق أدنبرة, زوج الملكة الذي كان يقف إلى
جانبها, وأمسك منسي برفق من ذراعه وخرج به من الصف. قال له: " أنت صغير السن
جداً. كيف أصبحت رئيس وفد دولة كبيرة كمصر ؟"
قضى منسي ذلك المساء كما يمكن أن يتخيل المرء. أكل
وشرب وحاور وجادل وضحك, وتعرف بلورد هذا وليدي تلك, وتحدث اللغة الإنجليزية على
أصولها في مكمن أسرارها وأمنع حصونها. وفي غمرة تلك السعادة أغفل أمراً مهماً, وهو
أن ذلك القصر ليس مكاناً "هملاً " وأن الإنسان لا يدخل ذلك الحصن دون
دعوة ودون وجه حق, مهما بدا له أنه رمز لشيء ما..كانت ثمة عيون تحرس, وترى وتسمع.
ثاني يوم, مع أول الصباح, وهو لم يكد يستيقظ من
نومه, حل عليه رجال أشداء من طراز لم يعرفه من قبل. رجال الأمن كانوا يعرفون عنه
كل شيء منذ أن وطئت قدماه أرض جزيرتهم. كل صغيرة وكبيرة أحصوها في سجلاتهم. وعلى
مدى شهر أو نحوه ضيقوا عليه الخناق, واتهموه بأنه عميل للمخابرات المصرية- قالوا
له إنهم لا يجدون تفسيراً آخر لسلوكه المريب. العجيب أن المصريين أيضاً اتهموه
بأنه عميل للمخابرات البريطانية فهم أيضاً لم يجدوا سبباً منطقياً لسلوكه.
دخل منسي في مأزق حقيقي, فجند كل طاقاته واتصالاته
ومعارفه. وأخيراً انتهى الإنجليز إلى الرأي بأنه شخص إما أحمق أو مجنون لا يدري
ماذا يفعل.
إنما منسي رحمه الله لم يكن أحمق ولا مجنوناً. كان
كما وصفته أستاذته باربرا براي " إنساناً نادراً على طريقته "
الطيب صالح
No comments:
Post a Comment